بالتزامن مع عقد لجنة محكمة الجنايات الدولية في العاصمة الأردنية
دراسة / الوضع القانونى ومحطات الاعتقال والتعذيب للأسرى الفلسطينيين .. الباحث د. رأفت حمدونة

بالتزامن مع عقد لجنة محكمة الجنايات الدولية في العاصمة الأردنية " عمان " بشأن انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي الخاصة بمعاملة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
صادرة عن مركز الأسرى للدراسات /
الباحث رأفت حمدونة
يعتبر الشعب الفلسطيني من أكثر الشعوب معاناة بسبب الاحتلال الإسرائيلي وممارسته القمعية التي طالت جميع نواحي الحياة في فلسطين، حيث أقامت إسرائيل دولتها العنصرية على ثلثي أراضي فلسطين منذ عام (1948)، ولم تكتف إسرائيل بذلك فقامت باحتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية عام (1967) ، وقامت باستخدام الاعتقال على نطاق واسع منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة في العام (1967) ، حيث كان الاعتقال والتعذيب أبرز أدوات القمع التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي في مواجهة المقاومة الفلسطينية، حيث زجت سلطات الاحتلال بمئات الآلاف من الفلسطينيين داخل المعتقلات والسجون التي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الإنسانية [1].
استخدمت اسرائيل قانونها الداخلى وقضائها العسكرى وغير العسكرى لتبرير اعتقال الفلسطينيين، فلقد أصدرت السلطات الاسرائيلية المئات من الأوامر العسكرية ، وقامت بعمليات الاعتقال استناداً إلى الأمر العسكرى رقم (378) الذى يجيز للاحتلال اعتقال وتوقيف الفلسطينيين دون انذار أو حتى تقديم مبررات مقنعة ، ولقد جرت عادة اسرائيل على احالة جميع القضايا المتعلقة بمعتقلين أو موقوفين من الفلسطينيين إلى محاكم عسكرية ، وأن يتم اعتقال واحتجاز الفلسطينيين فى سجون ومعتقلات داخل اسرائيل وليس داخل الأراضى المحتلة[2] .
وانتهج المحققون سياسة تحقيق وتعذيب بطرق محرمة وممنوعة دولياً ، وأصبح التعذيب قانوناً مشرعاً من قبل حكومة إسرائيل[3]، رغم المكانة الشرعية والقانونية ، وحق الأسرى المشروع بمقاومة الاحتلال وفق اتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة وقرارات الأمم المتحدة [4].
فى هذه الدراسة سيتناول الباحث تعامل دولة الاحتلال مع الأسرى من الناحية القانونية ، وعدم التزامها بالاتفاقيات والمواثيق الدولية ، وحرمانهم من حقوقهم الأساسية والإنسانية بدءاً من الاعتقال والمكانة القانونية ، وأساليب التحقيق والتعذيب ، والمحاكم العسكرية الردعية ، والتضييق عليهم فى كل مناحى الحياة اليومية والمعيشية .
أولاً : الوضع القانونى للأسرى فى السجون الاسرائيلية :
أيدت المواثيق والمعاهدات الدولية حق كل شعب في العمل على تحرير أرضه المحتلة بكافة الوسائل المشروعة، وذلك استناداً إلى حق الدفاع الشرعي عن النفس، وحق تقرير المصير الذي نص عليه ميثاق الأمم المتحدة وكذلك الاتفاقيتين الدوليتين الخاصتين بالحقوق المدنية والسياسية وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللتين أقرتهما الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك صدور توصية عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ، تقضي بوجوب تضمين جميع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان المعدة من قبل المنظمة مادة تنص على حق الشعوب في تقرير مصيرها وأن تعمل الدول على احترام وتأمين ممارسة هذا الحق [5].
ففى العام 2003م و من على منبر الكنيسيت الإسرائيلي اعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي "أرائيل شارون" بالاحتلال ، ورغم ذلك لم تنصاع اسرائيل للإتفاقيات الدولية في العامل مع الأسرى الفلسطينيين ، ولا للقواعد أو القوانين الشرعية الدولية، حيث أن حروب التحرير والتي نصت عليها قرارات الأمم المتحدة 1514 لعام 1960 تقضي بضرورة إستقلال الأقاليم المستعمرة ، وإنهاء كافة أشكال الاحتلال، وقرار الأمم المتحدة لعام 1968 م يقضي بمعاملة أسرى حروب التحرير الوطنية كأسرى حرب طبقاً لإتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949م وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3103 لعام 1973م يؤكد أن النضال المسلح الذي تخوضه الشعوب ضد الإستعمار من قبيل المنازعات الدولية طبقاً لإتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949م[6] .
فاسرائيل كدولة احتلال اعتمدت سياسة التكييف القانونى لمصالحها السياسية والأمنية وقامت بسن الأوامر العسكرية لفرض السيطرة على حياة السكان الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال بدون الالتزام بقواعد القانون الدولى الانسانى ، التى كان من المفروض أن تشكل الاطار القانون الأساسى لترتيب تعامل دولة الاحتلال مع السكان الفلسطينيين وواقع حياتهم تحت الاحتلال [7].
وعلى إثر ذلك صدر الأمر العسكري بنقل جميع الصلاحيات للسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية للحاكم العسكري ، ومنذ أيلول (سبتمبر ) 1967م فرضت المحاكم العسكرية الإسرائيلية سطوتها على كافة جوانب الحياة للفلسطينيين .
وبدأت تخضع إجراءات الاعتقال في المناطق المحتلة ، وطريقة معاملتهم ، لسلسلة من الأوامر العسكرية التي تصدر عن القادة العسكريين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة وترفض المحاكم العسكرية الإسرائيلية تطبيق تعليمات القانون الدولي[8] ، بالرغم من مصادقة اسرائيل على اتفاقيات جنيف الأربعة وعلى العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ، وعلى اتفاقية مناهضة التعذيب 1984 ، ولم تعترف بالأسرى الفلسطينيين كأسرى حرب سواء قبل توقيع اتفاقيات أوسلو أو بعد ذلك ، وطلت معاملتها لهم تنطلق على أساس اعتبارهم " مجرمين وارهابيين أو مقاتلين غير قانونيين " [9].
ومن الطبيعى فى ظل القرارات الدولية ، وانتهاكات دولة الاحتلال لمبادئها وموادها ، أن تثار التساؤلات عن المكانة القانونية للمعتقلين الفلسطينيين فى السجون الاسرائيلية ، ولقد تزايدت هذه التساؤلات فى الآونة الأخيرة ، بعد حصول فلسطين على وضع الدولة المراقب – غير العضو فى الامم المتحدة [10] .
اختلف آراء فقهاء القانون الدولى وغيرهم من الكتاب وتباينت مذاهبهم بشأن تكييف وضع المعتقلين الفلسطينيين فى السجون الاسرائيلية ، ويمكن التمييز ، فى هذا الصدد ، بين اتجاهات ثلاثة ، أحدها يذهب إلى اعطائهم وضع المقاتلين من أجل الحرية ، ومن ثم أسرى الحرب ، ، وثانيهما يتجه إلى إجراء تمييز داخل المعتقلين أو تقسيمهم إلى طائفتين ، الأولى تضم المقاتلين القانونيين ، والذين يحق لهم التمتع بوضع أسرى الحرب ، والثانية تضم المعتقلين المدنيين ، والاتجاه الثالث ، ويرى القائلون به أن المعتقلين الفلسطينيين هم رهائن أو مختطفون لدى سلطة الاحتلال الاسرائيلى [11] .
وأىٍ كانت الآراء والاجتهادات من قبل فقهاء القانون فيما يتعلق بالمكانة والتسمية القانونية " كأسرى أو معتقلين أو سجناء سياسيين أو رهائن أو محتجزين أو مختطفين " ، ومن المنطقى أن يكون اصطلاح ( الأسرى ) هو الأكثر ذيوعاً وانتشاراً فى الأوساط الفلسطينية ، حيث يعبر عن عدالة القضية الفلسطينية ، وسمو ونبل الهدف الذى يحتجز الأشخاص من أجله فى سجون الاحتلال ، وفى المقابل فان سلطات الاحتلال تستخدم مصطلح السجناء ، لكونه يضم الأشخاص بارتكاب أفعال معاقب عليها قانوناً ، ولعل هذا ما يفسر فى الواقع إصرار اسرائيل على استعمال هذا التعبير فى اتفاقات أوسلو [12]،
ثانياً ، الحقوق الأساسية للأسرى والمعتقلين وفق الاتفاقيات الدولية :
هنالك إجماع قانونى وقيمى وأخلاقى وانسانى يتفق عليه الجميع فى معاملة ( الأسرى والمعتقلين فى السجون ) والتأكيد على حقوقهم الانسانية والآدمية ، وفقاً للمادة الثالثة المشتركة فى اتفاقيات جنيف الأربع والتى تطالب بمعاملة إنسانية لجميع الأشخاص ( الأسرى والمعتقلين ) سواء ، وعدم تعريضهم للأذى ، وتحرم على الدولة الآسرة الايذاء أو القتل ، والتشويه، والتعذيب، والمعاملة القاسية، واللاإنسانية، والمهينة، واحتجاز الرهائن، والمحاكمة غير العادلة )[13].
والتى فصلت فى الحقوق الانسانية والأساسية للأسرى فى مكان الاعتقال وشروطه ، فى الغذاء والملبس، والشروط الصحية والرعاية الطبية ، والدين والأنشطة الفكرية والبدنية ، والملكية الشخصية والموارد المالية، والإدارة والنظام ، والعلاقات مع الخارج، والعقوبات الجنائية، ونقل المعتقلين، والوفاة، والإفراج والإعادة إلى الوطن[14].
وهنالك حقوق انسانية تضمنتها البروتوكولات والأخلاقيات المتمثلة في: المبادئ الأساسية المتعلقة بحقوق الأسرى، والمتمثلة بتوفير الطعام والشراب والكساء ، توفير السكن المناسب لهم، وعدم تكليفهم بما لا يطيقون، وعدم إكراههم على تغيير معتقداتهم ، وتوفير العناية الصحية والعلاجية اللازمة لهم، ومواساة أهل الأسير، وتوفير الاتصال الخارجي للأسير والمراسلات والزيارات بينه وبين أهله، وعدم قتل الأسرى مع الحفاظ على حياتهم، وعدم تعذيبهم بدنياً أو معنوياً، وحقهم في المعاملة الإنسانية، وفي احترام أشخاصهم وشرفهم في جميع الأحوال، وفي ممارسة الشعائر الدينية [15]، كما يحق لأسرى الحرب ممارسة نشاطهم الفكرى والثقافى والرياضى ، ويسمح لهم بارسال الرسائل والبطاقات واستلامها [16]ولقد اعتبرت اتفاقية جنيف لعام 1949 أسرى الحرب وديعة لدى الدولة الحاجزة وليسوا رهائن أو مجرمين [17] .
ومن المفترض أن يتمتع الأسرى الفلسطينيين فى السجون الاسرائيلية كطلاب حرية بكافة الامتيازات المعطاة لهم بموجب المواثيق الدولية ، إلا أن سلطات الاحتلال تسعى جاهدة إلى حرمانهم من أبسط حقوقهم الانسانية ، من خلال سياسة الاعتقال الإسرائيلية التي تبرر موقفها بأسباب واهية[18].
وفى ظل هذا التنكر القانونى عاملت اسرائيل الأسرى الفلسطينيين بعدائية غير مسبوقة ، الأمر الذى بات لا يخفى على احد ، وبناءاً عليه شدد البيان الختامى لمؤتمر الأمم المتحدة فى فينا حول الأسرى الفلسطينيين فى السجون الاسرائيلية فى السابع والثامن من آذار / مارس 2011 على عدم قبول الحجة الأمنية التى تسوقها اسرائيل ، السلطة القائمة بالاحتلال كمبرر لانتهاكات حقوق الانسان فى سجونها [19].
ثالثاً ، أشكال الإعتقال :
فى ظل تنكر سلطات الاحتلال للمكانة القانونية للأسرى الفلسطينيين فى سجونها ، قامت أجهزة الأمن بكل الانتهاكات والممارسات الجسدية والمعنوية والعقابية للأسرى والأسيرات ، من خلال سوء المعاملة[20] ، بدءاً بلحظة الاعتقال ، مروراً بالتعذيب والتحقيق وانتزاع الاعترافات عنوة تحت الضغط النفسى والجسدى ، مروراً بالمحاكم العسكرية والأحكام الردعية ، وانتهاءاَ بالتضييقات المعيشية خلال الاعتقال وللتفصيل أكثر :
1- ظروف الاعتقال :
من الصعب تقدير عدد الاعتقالات التى تتم خلال السنوات بشكل دقيق، لأن السلطات الاسرائيلية لا تزود المعنيين بالمعلومات الكاملة حول تلك الاعتقالات التى انخفضت فى أعقاب اتفاقية أوسلو[21] حتى انتفاضة 2000م ، وزادت فى أعقاب الانتفاضات " 1987 - 2000 - 2015 انتفاضة القدس " ، ويعتبر الاعتقال من أهم أشكال العنف السياسي المباشر الذي يمارس ضد الشعب الفلسطيني منذ بدء الاحتلال ، ويبدأ العدوان على المعتقل منذ اللحظة الأولى لاعتقاله، خاصة وأن عملية الاعتقال تتم بطريقة عنيفة ومرعبة بدءاً من الشتائم والألفاظ المسيئة للمعتقل إلى العنف الجسدي والسلوك العدائي والمهين في إجبار المعتقل على التعري، فطريقة الاعتقال تتم بطريقة وحشية لإرباك المعتقل وتخويفه، بالإضافة إلى إلحاق الأذى الجسدي، وتفريغ الحالة العدوانية في جسد الضحية التى غالباً ما تكون مكبلة الأيدي ومعصبة الأعين[22] .
فكل من دخل السجون الإسرائيلية، مورس بحقه أشكالاً متعددةً من التعذيب النفسي والجسدي ، ويبدأ التعذيب منذ لحظة الاعتقال وما يصاحبه من إدخال الخوف والرعب في قلوب الأهالي؛ حيث يتعمد الاحتلال إبراز القسوة والإجرام تجاه الأسير نفسه وأمام أبنائه وأهله، كما يتعمد الاحتلال بتقديم الإهانات واللكمات (الضرب) للأسير وذويه قبل اختطافه من بيته ، واستخدام المربط البلاستيكي لليدين ، واستخدام القوة المبالغ فيها والبدء بالتحقيق والقمع من لحظة الاعتقال الأولى [23] .
2- إعدام الأسرى بعد اعتقالهم :
تصاعدت سياسة اعدام الأسرى بعد الاعتقال بشكل ملحوظ خلال انتفاضة الأقصى 2000 وأخذت غطاءاً من محكمة العدل العليا الاسرائيلية التى أقرت فى عام 2002 سياسة التصفيات التى يقوم بها الجيش الاسرائيلى ضد من تسميهم بالنشطاء الفلسطينيين وقامت سلطات الاحتلال بإعدام الأسرى بدم بارد بوسائل متعددة منها :
1- اطلاق النار بشكل مباشر على المعتقل عند القاء القبض عليه " مشهد يتكرر يومياً فى انتفاضة القدس 2015 - 2016 ".
2- التنكيل بالمعتقل والاعتداء عليه بالضرب القاسى والشديد مما يؤدى الى استشهاده .
3- عدم السماح بتقديم الاسعافات الطبية للأسير الجريح بعد القاء القبض عليه وتركه ينزف حتى الموت ، كما تقوم سلطات الاحتلال بعمليات اختطاف للجرحى من سيارات الاسعاف والمستشفيات وتعذيبهم وتركهم ينزفون حتى الموت .
4- اطلاق النار على المطلوب للاعتقال ، وقتله فى حين أنه يمكن القاء القبض عليه واعتقاله حياً .
5- اطلاق النار على المطلوب الاعتقال وقتله على الرغم من علم جيش الاحتلال ووحداته الخاصة أنه غير مسلح ولم يبدى أى مقاومة ولا يشكل خطراً على الجنود ويمكن القاء القبض عليه حياً[24]، الأمر الذى اتضح فى هبة القدس نهاية 2015.
رابعاً ، وسائل التعذيب :
يقصد " بالتعذيب " وفق اتفاقية مناهضة التعذيب " أى عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد ، جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث ، على معلومات أو على اعتراف ، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في انه ارتكبه ، هو أو شخص ثالث أوتخويفه أو ارغامه هو أو أى شخص ثالث - أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأى سبب يقوم على التمييز ايا كان نوعه ، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفته الرسمية ، ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها "[25] .
ويتضح من خلال هذا التعريف أن هنالك أربعة شروط أساسية وتراكمية تجعل من أى عمل بمثابة تعذيب:
أ) يتم عن قصد .
ب) يسبب الألم أو المعاناة الشديدة .
ج) يتم لغرض تحقيق أحد الأهداف المشمولة في الميثاق، وبضمنها تخليص المعلومات .
د) يتم من قبل موظف رسمي أو بموافقته [26].
ويرى الباحث - بلا شك- أن تلك الشروط معززة بما تقوم به دولة الاحتلال مع الأسرى الفلسطينيين ، التى تستهدف الأسير الفلسطينى وترتكب جرم مقصود للنيل منه ، وانتزاع اعتراف وتخليص معلومات ولو غير حقيقية تحت الضغط والتعذيب لتحقيق الأهداف المشمولة فى الميثاق ، وعلى الرغم من أن إسرائيل قد وقعت وصادقت على اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984 ، فإنها تعتبر" الدولة" الوحيدة في العالم التي أجازت التعذيب وشرعته بقرار من المحكمة العليا الإسرائيلية ، لتعطي بذلك رخصة للمحققين الإسرائيليين وأجهزة الأمن المختلفة في مواصلة تعذيب الأسرى والمعتقلين بأشكال وأساليب متنوعة[27] ، فالأسرى فى سجون الاحتلال ليسوا مجرد عدد كبير ، بل هم مشهد تتجسد فى كل جنباته أصناف العنصرية والاهانة والتنكيل والتعذيب واللاانسانية التى يمارسها الاحتلال بحقهم[28] ، واسرائيل لم تمنع التعذيب ، بل على العكس فهى من الدول الاستثنائية التى شرعته ووفرت للمعذب الحماية القانونية بموجب أحكام قانونية صريحة وواضحة [29].
وبموجب هذه التغطية تعرض المعتقلون الفلسطينيون والعرب لمختلف أشكال التعذيب والاهانة والاذلال والتحقير والمس بالكرامة الانسانية والوطنية ، وتفتقت العقلية الصهيوينة عن عشرات الوسائل والأساليب فى التحقيق ، وطورتها سنة بعد أخرى ، وتفنن المحققون فى تعذيب الأسرى واهانتهم والحاق الأذى بهم على مدار السنين[30] .
ولقد تحولت السجون الإسرائيلية إلى مراكز لشن العنف ضد الشعب الفلسطيني وقواه المناضلة ذاك العنف الذي يستهدف الإبادة، ولكن عبر وسيلة أخرى غير حبل المشنقة أو حد المقصلة، وسيلة للتصفية التدريجية للإنسان جسديا ومعنويا، لقد أريد للمناضلين الفلسطينيين أن يتحولوا في السجن إلى حطام كائنات لا تمت للبشرية بأية صلة، كائنات مفرغة من كل محتوى إنساني وتشكل عبئا على نفسها وشعبها[31] .
ولقد أقدم الاحتلال على بناء المعتقلات بهدف استكمال ذبح الانسان الفلسطيني بأشكال أخرى محاولاً قتل قيمه النضالية وتدمير إرادة التحدي فيه والمواجهة في شخصيته وجعله نادما ومحبطاً على فعله النضالي، ولم يدخل أحد إلى السجون الاسرائيلية الا وتعرض لصنف أو اكثر من أصناف التعذيب " الجسدى أو النفسى " ومورس بحقه أبشع أساليب التعذيب المحرمة دولياً [32] ، فكل من دخل تجربة الاعتقال ومورس بحقه التحقيق والضغط والتعذيب يرى أن هنالك مناوبة على " الأسير الضحية " ويكون الحال أشبه بمسرحية متكاملة الأدوار ، لكل محقق وجه معين، وهم أشبه بالممثلين، محقق متخصص فى التهديد والوعيد ، ومحقق للشتيمة والاستهزاء والسخرية، ومحقق يمثل دور الطيب الحنون الذي يواسي ويستدرج بالكلام ، وآخر ينهال بالضرب والألفاظ البذيئة القذرة [33] ، وهنالك نوعان من التعذيب .
أ- التعذيب الجسدى :
تعددت وسائل وأساليب التعذيب الجسدى فى زنازين الاحتلال ، بدءاً بتغطية الرأس بكيس ملوث ، وعدم النوم ، وعدم العلاج ، واستخدام الجروح فى التحقيق ، ووضع المعتقل في ثلاجة ، والوقوف لفترات طويلة ، وأسلوب العصافير وما ينتج عنه من تداعيات نفسية ، واستخدام المربط البلاستيكي لليدين ، رش الماء البارد والساخن على الرأس ، وتعرية الأسرى ، واستخدام الضرب المبرح ، وربطهم من الخلف إما على كرسي صغير الحجم، او على بلاطة متحركة بهدف إرهاق العمود الفقري للأسير وإعيائه ، واستخدام القوة المبالغ فيها أثناء التحقيق والقمع ، والشبح لساعات طويلة بل لأيام ، إلى جانب استخدامها أساليب الهز العنيف للرأس الذي يؤدي إلى إصابة الأسير بالشلل او إصابته بعاهة مستديمة وقد يؤدي للوفاة [34]، و(الشبح) أنواع سواء ما تمثل في (الإجبار على الوقوف فترات طويلة)، أو (الوقوف رافعًا اليدين)،أو(ربط الأيدي بالأرجل من الخلف)[35] .
ويرى الباحث أن لكل أسير وأسيرة فلسطينية قصة مرعبة لأشكال وأساليب التحقيق وما مارسه المحققون فى المسالخ والزنازين التى فاقت كل توقعات البشر والآدميين ، ويروى الباحث تجربته الخاصة فى مسالخ التحقيق بالقول : " أدخلونى زنزانة جانبية وإذا بالشرطة تفتح الفوهة الصغيرة العليا للزنزانة، وتم وضع خرطوم أنبوبة المطافىء الكبيرة المليئة بالبودرة الكيميائية وضخها داخل الزنزانة الصغيرة فقمت بتغطية رأسي تحت البطانية المتسخة المتوفرة بالزنزانة حتى هدأ تناثر وبعثرة المادة التى سببت الاختناق لي، وأخذت أنادى على الشرطة وأكبر ليخرجونى من عملية تعذيب وخنق وإرهاب مبرمجة ، وتفاجأت بحضور الشرطة رداً على صراخى ظاناً أنهم آتون لإنقاذي، غير مدركٍ أن هذه هي إحدى مراحل التعذيب والانتقام في تلك الليلة القاسية والغير مسبوقة ، وتم اقتيادي لمكان انتظار في بداية القسم له ثلاثة جدران وواجهة شبك وكان الوقت قرابة منتصف الليل ، كنت أنتظر المزيد من المفاجآت في تلك الليلة الرهيبة وإذا بثلاثةٍ من الشرطة بلباسٍ مدني يتقدمهم شرطي بزي سجان قام بفتح البوابة عليّ ودخل أحدهم وبيده إبريق "كمكم كهربائي " مليء بالماء المغلي " ، واقترب منى ورشقه نحوي ، حركت وجهى قليلا وإذا بالماء يحرق جزءًا من رقبتي وصدري، وقاموا بنقلي لعيادة السجن الذي تعامل معي بكلّ قسوةٍ وألم وفقط وضع القليل من دهون الحرق على جسمي.
وشهادة مهمة أخرى من ليالى التحقيق مع المناضل المرحوم " أبو على شاهين " قال : " أخذ التعذيب معى منحى جديد من الشبح ، إلى التعليق من القدمين ، إلى التغطيس بالماء الساخن ، إلى الضرب على المواضع الحساسة فى الجسم ، إلى الأوساخ التى لا تتصور فى الزنزانة ، إلى التعذيب بالكهرباء وكان ذلك لأول مرة بالنسبة لى ، وهذا اللون من العذاب بدا جحيماً ، اذ لم يكتفوا باعطاء الشحنات الكهربائية ، بل أخذت تحرق الجلد ، بالاضافة إلى إطفاء السجائر بالجلد [36].
والحالة الابداعية للأسرى فى ظل تلك الصورة الأشبه بأفلام الرعب من وحى الخيال ، أنهم تميزوا بالقدرات والإمكانيات الشخصية وتكيفوا مع تلك الظروف وصبروا وصمدوا وانتصروا على جلاديهم ، لأنهم امتلكوا من القدرات المعرفية والانفعالية، ما يؤهلهم للتصدي للمواقف الضاغطة والتخلص منها، أو ما يعطيهم القدرة على تجنب أثارها السلبية ، أو التقليل منها بهدف المحافظة قدر الإمكان على التوازن الانفعالي والتكيف النفسي والاجتماعي[37].
ب - التعذيب النفسى :
أجازت لجنة التحقيق لضابط الشرطة استخدام الضغط النفسي غير العنيف من خلال التحقيق الشامل والشديد باستخدام الحيل وما فيها من أعمال الخداع ، والإهانة، والتحقير، والتفتيش العاري والحرمان من النوم، والزج في زنازين معتمة رطبة، إضافة إلى الإهانات المعنوية، و التهديد بالقتل، او النفي، او هدم البيت، والتهديد بالقضايا اللأخلاقية ، او اعتقال الزوج أو الزوجة [38]، واسماع المعتقل أصوات مسجلة لاستغاثات واطلاق نار ، ونباح كلاب بوليسية [39] ، واستخدام الموسيقى الصاخبة ، والحرمان من العبادات ، وغير ذلك من ممارسات ، والمحقق فى الزنازين لا يتوانى من استخدام الوسائل النفسية والجسدية بحق الأطفال والنساء لخصوصيتهن على العكس فهنالك شهادات تثبت استغلال المحقق لخصوصية وضعهما السيكولوجى والفسيولجى وللتفصيل أكثر .
- تعذيب الأطفال :
افاد محاموا هيئة شؤون الأسرى والمحررين فى اكتوبر 2015 ، بأن السلطات الإسرائيلية وجنودها وإدارة مصلحة سجونها، مارست واحد أو أكثر من أساليب التعذيب أو التنكيل النفسي والجسدي بحق 99% من الأطفال القاصرين الذين يتم اعتقالهم واستجوابهم في مراكز التحقيق [40]، وأن أطفالاً صغاراً وطلاب مدارس ابتدائية يتم اعتقالهم وضربهم وزجهم في ظروف اعتقالية وحشية وبعضهم من المصابين بالغاز او الرصاص ، ويتم التحقيق معهم لساعات طويلة وهم مشبوحين على كرسي ومقيدى اليدين والقدمين، وينهالوا على القاصرين دون سن الثامنة عشر عدد من المحققين بالضرب المبرح طالبين منهم الاعتراف وان الجميع تم ضربهم على بطونهم ووجوههم مسببين لهم آلام شديدة ، وتعرض الأطفال لكل ما يتعرض له البالغين من الشبح والضرب والهز العنيف وكل أشكال التعذيب الجسدى والنفسى كالتفتيش العارى والتهديد والترهيب والضغط النفسى[41] .
- تعذيب الأسيرات :
لم تسلم الأسيرات رغم خصوصيتهن من كافة أشكال التعذيب الجسدى والنفسى الذى يتعرض له الرجال ، إضافة إلى تعرض الأسيرات الفلسطينيات للتحرش اللفظي من قبل جنود الاحتلال، وانعدام الفحوصات المخبرية والرعاية الصحية للحوامل ، والضرب القاسى المهدد للاجهاض فى حال الحمل ، وغياب الطواقم الطبية المختصة بالأمراض النسائية ، والتهديدات اللأخلاقية ، بالاضافة للضغوط النفسية باعتقال الأبناء والزوج أو الوالد وهدم البيت [42]، الأسيرة المحررة فيروز عرفة وثقت التجربة الاعتقالية بالقول " حينما لم تكتب الأسيرة اعترافاً عن انشطتها للمخابرات فى التحقيق " بدأت معى رحلة الشتم والبصق ، والاهانة ، والكفر ، وبعد فشلهم فى كسر ارادتى بدأوا بممارسة " الاهمال " وهو أسلوب يتبعه المحققون لتحطيم معنويات المعتقل الفلسطينى ، وتبدأ الهواجس والأفكار تهاجمه وتؤثر على نفسيته ، معتقدأ انهم نسوه ، فكانوا يتركونى أيام بدون جولات تحقيق ، وهنا أقر كانت تراودنى أفكار سيئة ومزعجة أوجه عشرات الأسئلة لنفسى ، لماذا يفعلوا ذلك ؟ ماذا يريدون ؟ ما هى خطواتهم التالية[43] ؟
رواية أخرى تجرم دولة الاحتلال بسبب انتهاكاتها للمبادىء الانسانية التى نص عليها ملحق قائمة القواعد العرفية فى القانون الدولى الانسانى الذى أكد فى القاعدة 127 على تلبية الاحتياجات الخاصة بالنساء المتأثرات بنزاع مسلح فى الحماية والصحة والمساعدة [44]" شهادة الاسيرة المحررة فاطمة الزق فى وصف التعذيب ، قالت : "عذبوني نفسيا وجسديا وحاولوا إجهاضي لأكثر من مرة ، وقدموا لى دواء غير معروف ، وأصابنى نزيف حاد كدت أفقد بسببه جنينى ، وتعرضت للضرب بلكمات في وجهي من قبل ضابط المخابرات الإسرائيلي ، وأخذوني في منتصف الليل سحبا بالسلاسل والقيود ، وتم نقلي من زنزانة إلى أخرى بهدف إرهابى وتعاملوا معى بوحشية وقسوة دون مراعاة لخصوصيتى كمرأة أو كحامل [45]، وحاولوا اجهاضى من خلال الدواء والعلاج الغير معروف وفي كل مرة كانوا يطلبون منى فحص الجنين ليس للمساعدة طبعا ، وكنت أرفض إجراء الفحص الذي يهدف لقتل جنينى ، وحينما باءت محاولاتهم العديدة بالفشل رفضوا أثناء ولادتى وجود أهلي بقربي ولكن الله كان معي دائما ، حيث تمت ولادتى بعد معاناة كبيرة مع الطبيبة العنصرية ، وكان الإحتلال قد قيدنى خلال الولادة بالسلاسل من القدمين واليدين لثلاثة أيام متواصلة وبعد معاناة فكوا قيودى وكنت في مستشفى " مائير بكفار سابا " حيث كنت أشعر بأنى في ساحة حرب وكانت الطبيبة الإسرائيلية العنصرية تصرخ في وجهى بأنى إرهابية وسألد إرهابي[46] .
اعترف جهاز المخابرات الإسرائيلية ضمنا فى أعقاب موجة اعتقالات أكتوبر 2015 ، أنه يمارس أشكالا من التعذيب ضد المعتقلين الفلسطينيين، وطالب نيابة دولة الاحتلال بابرام صفقات مع المعتقلين تتضمن "أحكاما مخففة" عليهم في المحاكم العسكرية ، ، تخوفاً من تقديم شكاوى لمحكمة الجنايات الدولية في العاصمة الهولندية لاهاي[47] تدينهم ، وذلك فى أعقاب انضمام فلسطين رسميا إلى الجمعية العامة لأعضاء محكمة الجزاء الدولية في خطوة رئيسية تتيح للمسؤولين الفلسطينيين ملاحقة إسرائيل بدعاوى حول ارتكاب جرائم حرب بحق المواطنين الفلسطينيين [48].
خامساً ، أشكال التحقيق :
1- مشاركة الأطباء فى التعذيب :
المكان لربما الوحيد فى العالم من يشرك الطواقم الطبية العاملة لديه لتعذيب الأسرى والأسيرات بشكل متعمد ، اذ أن كثيراً ما انتحل المحقق صفة الطبيب ، والكثير من الأطباء ما يتحولون إلى أدوات فى يد الأجهزة الأمنية ، ينفذون ما يطلب منهم ، أو يصمتون أمام تعذيب المخابرات الاسرائلية للمعتقلين أمامهم ، متخلين بذلك عن أخلاقيات المهنة[49] .
2- جهاز كشف الكذب:
إدعت دولة الاحتلال أن ما يسمى كشف جهاز الكذب بمقدوره اكتشاف كذب الأسير على المحقق برصد بعض التغيرات التي تطرأ على جسمه " كنبضات القلب وإفرازات العرق الناجمة عن توترات عصبية ، فتقوم دولة الاحتلال بعرض ذلك الأسير أو الأسيرة على خبير مختص يقوم بوضع الأسلاك على الأسير من أذنه وبطنه وأطراف أصابعه والأسلاك ، ويقوم المحقق بتوجيه الأسئلة إلى المعتقل مطالبه بالإجابة عليها بسرعة فعندما يحصل تغيير ترتفع الذبذبات فينتبه المحقق إلى موقع الكذب( )، علماً بأن هذا الجهاز لا يشكل إثباتاً أمام المحكمة وكذلك ممنوع في العرف الدولي، ولا يجوز استخدامه ضد المعتقلين [50].
تقول الأسيرة المحررة روضة حبيب أنهم نقلونى إلى ما يسمى بجهاز الكذب وأبلغنى المحقق أنهم دفعوا آلاف الدولارات لتأمينه لفحص الصدق أو الكذب ، تعرضت لهذا الأسلوب ثلاث مرات ، وكل مرة كنت أمكث 15 ساعة للعملية الواحدة ، كنت أشعر بعملية تحقيق قاسية ، أى حركة للرأس أو الجسم يعيد الاختبار من جديد كنت أشعر بالتحنيط ، كنت أذهب للخبير من الساعة التاسعة والنصف صباحاً حتى نهاية الليل ، كنت أشعر بالشلل وأنا مليئة بالأسلاك فى كل مكان على جسمى وقلبى ، وفى النهاية قال لى أنت انسانة كذابة وخسرنا الكثير من المال دون فائدة ، وعقبت كل القضية مسرحية شعرت أن الكرسى نفسه كذاب بالاضافة للمحققين [51] .
3- استخدام العملاء " غرف العار":
غرف العار تعتبر وسيلة كيدية للمعتقل الفلسطينى على يد بعض المتساقطين أمنياً ممن تعاونوا مع الاحتلال هدفهم اثبات الولاء بوسيلة الحصول على الاعتراف من المعتقلين عن طريق الخداع وتمثيلهم لأدوار وطنية، وكل مايحدث بإيعاز وإشراف رجال المخابرات الإسرائيلية ، فيمثلون دور الشرف والنضال بهدف استدراج المعتقل للحديث عن العمليات أو النشاطات التي قام بها أو ممارسة الإرهاب ولإتمام عملية التمثيل فإنهم يضربون المعتقل ويهددونه بإحداث جروح في جسده بأدوات حادة[52] .
بايجاز عملية التحقيق ليست سهلة ويسيرة وانما هى عملية معقدة ومركبة جداً وتحتاج إلى نظرية عالية فى الدقة والاحكام وتراعى أدق وأرقى العلوم وتستخدم أعلى نظم للتكنولوجيا كى تنجح فى تحقيق أهدافها بحسب ما لدى المعتقلين من معلومات ، فليس من المتوقع أن يجدد المحقق هذا الفدائى الذى حمل روحه على كفه من أجل القيم التى يحملها أن يقدم له ما لديه من معلومات على طبق من ذهب ، هذا ليس متوقعاً ، كما وأنه ليس متوقع أن يحقق رجل الشاباك ذلك بقليل من الجهد أو بصورة وأساليب سهلة وسطحية [53].
نعم تعرض عشرات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني لشتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي، ولكن بسبب قناعة هؤلاء الأسرى المعذبين بعدالة قضيتهم، لا تظهر عليهم آثار التعذيب النفسية والاجتماعية، بقدر حجم وكم التعذيب الذي يتعرضون له ومن زاوية التحدي للاحتلال وممارساته وجرائمه، يظهر هؤلاء الأسرى درجة عالية من التماسك ليشكلوا نموذجاً في الصمود أمام شعبهم في مقارعة الاحتلال، لحثهم على المقاومة بدلاً من الخضوع للاحتلال والخوف منه[54].
حتى ما بعد الأسر والافراج اتضح أن المحررين يتمتعون بإستراتيجية إعادة التقييم والتى تحتل المرتبة الأولى في الاستخدام في مواجهة الآثار النفسية، يليها التخطيط لحل المشاكل، ثم التحكم بالنفس، يليها الانتماء، تأتي في المرتبة الخامسة إستراتيجية تحمل المسؤولية، يليها التفكير بالتمني والتجنب، وجاءت إستراتيجية الارتباك والهروب في المرتبة السابعة والأخيرة في الاستخدام من قبل الأسرى المحررين، كما تبين أن الأسرى يستخدمون العديد من استراتيجيات التكيف لمواجهة الآثار النفسية الناشئة عن الأسر[55].
سادساً ، المحاكم العسكرية والأحكام الردعية :
وقع عدد كبير من أفراد قوات منظمات المقاومة الفلسطينية فى قبضة قوات الاحتلال الاسرائيلية ، التى رفضت اعتبارهم أسرى حرب ، واعتبرتهم معتقلين وأحالتهم للمحاكمة بالمخالفة لقواعد القانون الدولى الانسانى ، ولقد أصدرت بحقهم أحكاماً مختلفة[56] ، طبقاً لقوانين الطوارىء وتعديلاتها ، ووفقاً للأوامر العسكرية التى أصدرتها الحكومة العسكرية للاحتلال ، وغالباً ما يكون الدليل الوحيد ضد المعتقل هو اعترافه أو اعتراف معتقلين آخرين عليه فى حين لا يشكل استخدام التعذيب ضده سبباً كافياً لبطلان اعترافه ، واذا كان كل من مثلوا أمام المحاكم العسكرية قد أدينوا فإن ذلك يرجع إلى عدم تمكن أى هيئة دفاع من دحض أى اتهام أمام أى محكمة عسكرية ، وما ذاك الا لأنها جميعاً تتبنى موقفاً مسبقاً من المتهمين وتتلقى أوامرها من الجهات الأمنية والسياسية العليا ، وتتعامل مع المعتقلين على قاعدة أن كل فلسطينى يمثل أمام المحاكم العسكرية هو مدان حتى يثبت عكس ذلك[57].
وفى جميع الحالات التى يتراجع فيها المعتقل عن أقواله التى انتزعت منه تحت الضغط ترفض المحكمة الأخذ بأقوال المعتقل فى أثناء محاكمته وتعلن عنه النيابة العسكرية شاهداً معادياً وتستند المحكمة إلى ما تقدمه المخابرات من افادات واعترافات كان المعتقل قد قدمها فى أثناء التحقيق ، والتى انتزعت منه بالقوة والتعذيب والتحايل ، ولا تقبل المحكمة تراجع المعتقل عن أقواله [58] .
خلاصة :
يخلص الباحث فى نهاية دراسته أن أجهزة الأمن الإسرائيلية فى تعاطيها مع الشعب الفلسطينى من منظور أمنى وعدائى بحت ، ترتكب جرائم حرب فى إعدامها للمعتقلين أثناء اعتقالهم ، وفى مراكز التوقيف والتحقيق وممارسة التعذيب النفسى والجسدى بغطاء من المحاكم الاسرائيلية بمغلفات ومبررات أمنية واهية ، أباحت للمحقق والسجان والقاضى العسكرى كل ما من شأنه تعنيف وإرهاب المعتقلين والانتقام منهم بشتى الوسائل ، كالتعذيب والترهيب والاستهداف الأمنى والأخلاقى والحرمان من الحقوق الانسانية والأساسية ، والتعامل بمنطق العداء والكراهية والقولبة الامنية والسياسية السلبية والتحريض الاعلامي ، والأحكام الردعية المستندة للمزاج العسكري ، اذ لا منطق ولا عقل ممكن أن يستوعب حكم أسير بستة آلاف وسبعمائة عام ( 67 مؤبد مدى الحياة ) ، أو مكوث اسرى فى السجون الاسرائيلية لمدة 34 عام متواصلة ، أو حكم طفل دون سن الثامنة عشر لأكثر من عشرين عام ، أو أسيرة بالمؤبد مدى الحياة .
......................................
ملاحظة / يحتفظ الباحث بمصادر الدراسة لحفظ حقوق الملكية / ولكونها أحد مباحث رسالة الدكتوراة
يمنع الاقتباس دون ذكر المرجع - والأفضل - بالمعلومات التالية : د. رأفت خليل حمدونة : الجوانب الإبداعية في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرةفي الفترة ما بين 1985 إلى2015، القاهرة ، رسالة مقدمة للحصول على درجة الدكتوراة في قسم العلوم السياسية ، معهد البحوث والدراسات العربية ، 2015 ، ص52 - 65 .
........................................
دراسات سابقة للباحث :
دراسة / الإضراب المفتوح عن الطعام ( التعريف ، والجذور ، والقانون ، والأنواع )
http://alasra.ps/ar//index.php?act=post&id=27436
دراسة / أطفال النطف المهربة ثورة انسانية فى وجه السجان
http://alasra.ps/ar//index.php?act=post&id=27528
دراسة / التجربة الديمقراطية للأسرى الفلسطينيين فى السجون الاسرائيلية
http://alasra.ps/ar//index.php?act=post&id=27819
دراسة / الأوضاع التعليمية للأسرى الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية
http://alasra.ps/ar//index.php?act=post&id=27754
دراسة / المسيرة الثقافية للأسرى الفلسطينيين فى السجون الاسرائيلية
http://alasra.ps/ar//index.php?act=post&id=27717
دراسة / أدب السجون التعريف والمميزات
http://alasra.ps/ar//index.php?act=post&id=27645
دراسة / وثيقة الأسرى لا زالت مفتاح المصالحة الفلسطينية وانهاء الإنقسام
http://alasra.ps/ar//index.php?act=post&id=27577
دراسة / عوامل ابداع الأسرى الفلسطينيين فى السجون الاسرائيلية
http://alasra.ps/ar//index.php?act=post&id=27433
دراسة / آليات اعتقالية لتطوير منظومة الإبداع للأسرى الفلسطينيين فى السجون الاسرائيلية
http://alasra.ps/ar//index.php?act=post&id=27967
دراسة / الوسائل النضالية للأسرى الفلسطينيين في مواجهة السجان الاسرائيلى
http://alasra.ps/ar//index.php?act=post&id=27875
دراسة / عن الوضع القانونى ومحطات الاعتقال والتعذيب للأسرى الفلسطينيين فى السجون
http://alasra.ps/ar//index.php?act=post&id=28106
تعريف بالباحث رأفت حمدونة :
باحث مختص فى قضايا الأسرى والشأن الاسرائيلى ، ومدرب ممارس محترف فى التنمية البشرية ، عضو في نقابة الصحفيين الفلسطينيين والدوليين، حصل على شهادة البكالوريوس في علم الاجتماع والعلوم الإنسانية من الجامعة المفتوحة في إسرائيل خلال فترة اعتقاله التى دامت 15 عام متواصلة ، وحاصل على درجة الماجستير في الدراسات الإقليمية مسار " دراسات إسرائيلية " وبتقدير ممتاز من جامعة القدس / أبو ديس، وحصل على الدكتوراة فى مجال العلوم السياسية بمعهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة فى العام 2016 ، من مؤلفاته داخل الاعتقال ” نجوم فوق الجبين – عاشق من جنين – الشتات – ما بين السجن والمنفى حتى الشهادة – قلبي والمخيم – لن يموت الحلم – صرخة من أعماق الذاكرة ” ، يعمل مديرًا عامًا بهيئة شئون الأسرى والمحررين ، ومدير مركز الأسرى للدراسات والأبحاث الإسرائيلية ، ومحاضر غير متفرغ فى الجامعات الفلسطينية ، ومقدم برامج اذاعية وتلفزيوينة .
للمراسلة على اميل :
تعليقك على الموضوع